يقول الإمام القرطبي في تفسيره للآية كلاما عجيبا عن المكابدة فأحببت أن انقله لكم لنتعرف عن
المكابدة وكيف شرحه علمائنا رحمهم الله .
إلى هنا انتهى القسم؛ وهذا جوابه.
ولله أن يقسم بما يشاء من مخلوقاته لتعظيمها، كما تقدم.
والإنسان هنا ابن آدم. "في كبد" أي في شدة وعناء من مكابدة الدنيا.
وأصل الكبد الشدة. ومنه تكبد اللبن: غلظ وخثر وأشتد. ومنه الكبد؛ لأنه دم تغلظ واشتد.
ويقال: كابدت هذا الأمر: قاسيت شدته:
قال لبليد:
يا عين هلا بكيت أربد إذ قمنا وقام الخصوم في كبد
قال ابن عباس والحسن: "في كبد" أي في شدة ونصب.
وعن ابن عباس أيضا: في شدة من حمله وولادته ورضاعه ونبت أسنانه، وغير ذلك من أحواله.
وروى عكرمة عنه قال: منتصبا في بطن أمه.
والكبد: الاستواء والاستقامة. فهذا امتنان عليه في الخلقة.
ولم يخلق الله جل ثناؤه دابة في بطن أمها إلا منكبه على وجهها إلا ابن آدم،
فإنه منتصب انتصابا؛ وهو قول النخعي ومجاهد وغيرهما.
ابن كبسان: منتصبا رأسه في بطن أمه؛
فإذا أذن الله أن يخرج من بطن أمه قلب رأسه إلى رجلي أمه.
وقال الحسن: يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة.
وعنه أيضا: يكابد الشكر على السراء ويكابد الصبر على الضراء؛
لأنه لا يخلو من أحدهما.
ورواه ابن عمر. وقال يَمانٌ: لم يخلق الله خلقا يكابد ما يكابد ابن آدم؛
وهو مع ذلك أضعف الخلق.
قال علماؤنا:
أول ما يكابد قطع سرته،
ثم إذا قمط قماطا، وشد رباطا، يكابد الضيق والتعب،
ثم يكابد الارتضاع، ولو فاته لضاع،
ثم يكابد نبت أسنانه، وتحرك لسانه،
ثم يكابد الفطام، الذي هو أشد من اللطام،
ثم يكابد الختان، والأوجاع والأحزان،
ثم يكابد المعلم وصولته، والمؤدب وسياسته، والأستاذ وهيبته،
ثم يكابد شغل التزويج والتعجيل فيه،
ثم يكابد شغل الأولاد، والخدم والأجناد،
ثم يكابد شغل الدور، وبناء القصور،
ثم الكبر والهرم، وضعف الركبة والقدم، في مصائب يكثر تعدادها، ونوائب يطول إيرادها، من صداع
الرأس، ووجع الأضراس، ورمد العين، وغم الدين، ووجع السن، وألم الأذن.
ويكابد محنا في المال والنفس، مثل الضرب والحبس، ولا يمضى عليه يوم إلا يقاسي فيه شدة، ولا يكابد إلا مشقة،
ثم الموت بعد ذلك كله،
ثم مساءلة الملك، وضغطة القبر وظلمته؛
ثم البعث والعرض على الله، إلى أن يستقر به القرار، إما في الجنة وإما في النار؛
قال الله تعالى: "لقد خلقنا الإنسان في كبد"،
فلو كان الأمر إليه لما اختار هذه الشدائد.
ودل هذا على أن له خالقا دبره، وقضى عليه بهذه الأحوال؛ فليمتثل أمره.
(المجلد 20 المكتبة التوفيقية )