علاقة البنا بالفنانين
الإمام الشهيد حسن البنا
كما كوّن البنا علاقة بالفنانين الذين تيسّر له الوصول إليهم ، فقد كان يتعامل مع الفنانين بروح أخرى غير ما كان يتعامل بها معظم إسلامي عصره ، وهي روح المقاطعة وعدم إقامة أي علاقة معهم ، ولا حتى الحرص على السلام عليهم ، بل السخرية أحياناً والتنقٌص من امتهانهم للتمثيل ، على عكس البنا رحمه الله ، فقد أقام البنا علاقات مع الفنانين ، تركت أثراً طيباً عن دعوة الإخوان في نفوسهم ، سواء كانت العلاقة بلقاء عابر لا يفوته فيه غرس معنى من معاني الإسلام الحسنة ، أو بإقامة علاقة تواد وتودد معه ، أو بظهور الدعوة أمامه بمظهر لا يدعوه للريبة من حملتها ، أذكر من هؤلاء الفنانين ثلاثة فقط ، هو ما وصلت إليه من خلال بحثي وتنقيبي في هذا الأمر ، إضافة إلى أعضاء فرقة مسرح الإخوان المسلمين مع الفنانين .
أنور وجدي
أما أولهم فهو الفنان أنور وجدي ، الذي كان له صيت ذائع في فترة الأربعينيات من القرن العشرين ، والذي كان يلقب بفتى الشاشة ، وله جمهوره المتابع لفنه ، يقول الدكتور محمود عساف :
( في يوم من أيام صيف عام 1945م ، وكان الجو صحواً ونسمة خفيفة تداعب الشجر في ميدان الحلمية الجديدة ، ذهبت إلى الأستاذ الإمام كعادتي كل يوم أتلقى تعليماته فيما يتصل بالمعلومات ، وكان في ذلك الوقت غير مشغول بضيوف أو أعمال لها صفة الإستعجال ، قال لي : قم بنا لنذهب إلى البنك العربي لنفتح حساب للإخوان هناك " إذ لم يكن للإخوان حساب بأي بنك حتى ذلك الوقت" .
توجهنا إلى مكتب رئيس البنك وكان يتبع سياسة الباب المفتوح للعملاء ، ويستطيع أي عميل أن يدخل إليه بغير استئذان ، دخلنا وألقينا السلام ، وجلسنا على أريكة مواجهة للمكتب ، وكان هناك رجل جالس على مقعد مجاور للمكتب وظهره منحرف نحونا ، وكان يتحدث مع شومان بك ( رئيس البنك ) وفي انتظارنا صامتين إلى أن تنتهي تلك المقابلة ، فاجأنا شومان بك بقوله : " أهلاً وسهلاً " بصوتٍ عال جعل الجالس إلى مكتبه ينظر نحونا ، وإذ بذلك الجالس ينتفض واقفاً ويهتف " حسن بك ؟ أهلاً وسهلاً يا حسن بك ، ثم تقدم نحونا مصافحاً الإمام ثم إباي . ثم جلس على مقعد مجاور للإمام وقال : أنا أنور وجدي ... والمشخصاتي ... يعني الممثل ... طبعاً أنتم تنظرون إلينا ككفرة نرتكب المعاصي كل يوم في حين أني والله أقرأ القرآن وأصلي كلما كان ذلك مستطاعاً .
كانت مفاجأة لي ، فلم نكن ننادي الإمام أو نشير إليه إلا بقولنا : فضيلة الأستاذ . أما حسن بك ، فقد كانت نشازا .
قال له الإمام : يا أخ أنور أنتم لستك كفرة ولا عصاة بحكم عملكم ، فالتمثيل ليس حراماً في حد ذاته ، ولكنه حرام إذا كان موضوعه حراماً . وأنت وإخوانك الممثلون تستطيعون أن تقدموا خدمة عظمى للإسلام إذا عملتم على إنتاج أفلام أو مسرحيات تدعوا إلأى مكارم الأخلاق ، بل إنكم تكونون أكثر قدرة على نشر الدعوة الإسلامية من كثير الوعاظ وأئمة المساجد .
إني أرحب بك وآمل أن تحضر لزيارتنا بدار الإخوان المسلمين بالحلمية الجديدة لنتبادل الرأي حول ما يمكن أن تسهموا به في نشر الفضيلة والدعوة إلى الله ( 1 ) . فعندما سمع أنور وجدي هذا الرد الجميل من الإمام البنا بكى أنور وجدي وقبل يده ورأسـه ( 2) ، بعدهـا رأينا لأنور وجدي ( ليلى بنت الفقراء ) ( 3 ) .
حسين صدقي :
والفنان الآخر : هو حسين صدقي الذي يشير بعض معاصري البنا إلى علاقة بينه وبين البنا في نهاية الأربعينات من القرن الماضي ، قبل وفاة البنا ببعض شهور ، وأكمل الأستاذ سيد قطب المشوار الدعوي معه ، إذ كان يسكن بجواره الفنان حسين صدقي رحمه الله ، وقد ذهب إليه يخبره أنه ينوي اعتزال التمثيل ، وتركه نهائياً ، فقال له سيط قطب : إنني أكتب عشرات المقالات ، وأخطب عشرات الخطب ، وبفيلم واحد تستطيع أن تنهي على ما فعلته أنا ، أو تقويه ، أنصحك أن تستمر ولكن بأفلام هادفة .
وبالفعل قدم حسين صدقي بعد ذلك فيلمين : الأول ضاع عن ذهني اسمه ، وقد مثل فيه معه : حسن فايق وعزيزة حلمي ، وماجدة ، وكان يدور حول علاقة الأب بأبنائه ، وأسلوب التربية الخطأ ، وقد دخل هذه الأسرة المفككة فأقام علاقة جيدة بالأولاد ، مما كان سبباً في تحسين علاقتهم بأبيهم وربهم .
أما الفيلم الآخر : فهو فيلم : ( الشيخ حسن ) ولم أره ، ولا يعرضه التلفزيون المصري ، فقد صادرته الرقابة آنذاك ، ولكني رأيت إعلانه في الجرائد القديمة ، وقد رأيت صورة حسين صدقي يرتدي الزي والعمامة الأزهرية ، وشاركه في البطولة ليلي فوزي ، وسألت أحد الذين شاهدوا الفيلم ، فحكى لي أنه يدور حول شيخ أزهري ، عرف فتاة مسيحية فدعها إلى الإسلام فأسلمت فأثار الفيلم ضجة ـ واعتراضا من المسيحيين في مصر ، فآثرت الرقابة السلامة فمنعته .
عمر الشريف :
أما الفنان الثالث الذي يبدو أن البنا والإخوان أقاموا معه علاقة وتعامل ، أو رأى منهم سلوكيات تشعره بموقفهم تجاه الفن ، مما أثر في رأيه تجاه الإخوان بالإيجابية ، فهو الفنان العالمي المصري المعروف عمر الشريف الذي هاجت الدنيا بعد فوز الإخوان في انتخابات البرلمان المصري في نوفمبر 2005 م ، متخوفين من موقف الإخوان تجاه الفن والثقافة ، فصرّح عمر الشريف أكثر من مرة بأنه لا أساس لهذا الخوف من الإخوان فهو يعرفهم منذ القدم ، وهم ليسوا ضد الفن ، ولا شك أن هذه الصورة تكونت لديه من نهاية الأربعينات وبدايات الخمسينات ، كما ذكر في تصريحه ، فقد غابوا بعد ذلك فترة طويلة وراء السجون إلى منتصف السبعينات ( 4 ) .