البنا والفن اليدوي :
أما عن البنا والفن اليدوي والمتمثل في التصوير الفوتوغرافي والرسم وغيره ، فموقف البنا فيه موقف معروف ، فلم يكن البنا ضد التصوير الفوتوغرافي ولا ضد الرسوم الكاريكاتورية ، فمن أول مجلة أنشأها الإمام البنا استخدم فيها الصور ، وهي مجلة ( جريدة الإخوان المسلمون ) ففي السنة الأولى منها فاجأ البنا الجميع بأمر لم يكن مألوفاً في المجلات الإسلامية ، فقد أعلن عن إنشاء قسم الأخوات المسلمات في جماعة الإخوان المسلمين ، فكتب تحت عنوان : إلى الأخوات المسلمات نداء من السيدة لبيبة هانم أحمد مسؤولة قسم الأخوات المسلمات ، تدعو فيه أخواتها المسلمات للتعاون معها في هذا القسم ، ثم ثنّى على ذلك البنا بتعقيب على ما كتبته السيدة لبيبة هانم أحمد ، بعنوان : مثال المرأة المسلمة الصالحة السيدة لبيبة هانم أحمد ، وقدمها بما فيها من خلال وصفات ، وقد وضع في رأس الصفحة صورة السيدة لبيبة هانم أحمد ( 1 ) ويعتبر هذا أول مرة تجرؤ مجلة إسلامية على نشر صورة امرأة في صدر صفحة من صفحاتها ، أو في أي صفحة من صفحات مجلتها .
ثم اقترح أحد الإخوان على الأستاذ البنا أن ينشر صور أعضاء جمعية الإخوان المسلمين من باب التعارف ، وذلك في السنة الثالثة من المجلة ، فبادر الإمام البنا بتنفيذ الفكرة ، فنشر صورته ، ثم بعد ذلك صور عدد من الإخوان ، كلما أرسل عضو صورته نشرت مع ذكر اسمه وذكر منطقته . ونفذ نفس الفكرة في مجلة ( الشهاب ) آخر مجلات البنا إصداراً ، فقد كان يفرد في نهاية المجلة صفحة أو صفحتين ينشر فيها صوراً لعلماء ومفكرين ودعاة ، معرّفاً في صفحة أخرى أو أكثر بأصحاب الصور بما يليق بهم من تعريف ، ويعطي القارئ نبذة مختصرة عنهم .
هذا الأمر يجعلنا نخرج بنتيجة : وهي أن الإمام البنا كان رأيه جواز التصوير الفوتوغرافي ، وعدم ممانعته في ذلك ، وإن لم يكن هناك أي فتوى للبنا في حكمه ، ولكن رأينا له فعلاً عملياً في ذلك .
البنا وفن الكاريكاتير :
كـانت علاقة الإمام البنا بالجماعات العاملة في حقل الدعوة الإسلامي وطيدة ، يجمع بينهما الود والتعاون ، وكذلك حاول مع بعض الأحزاب ، إلا أن هناك أحزاباً ناصبته العداء ، وسخرت صحافتها للنيل منه ، والتهكم عليه ، وعلى دعوته ، وكثيراً ما كانوا يرسمونه في صورة كاريكاتورية تعبر عن سخريتهم من دعوة الإخوان ، ومنه شخصياً ، كما في تعمدهم دوماً عند الحديث عنه نعته بمدرس الخط ، وكان البنا يرد على ذلك كله بالرد الجميل ، وكان يرسل خطاباته للنحاس باشا رئيس وزراء مصر بهذا الأسلوب : من مدرس الخط إلى دولة رئيس الوزراء ، وقد كان لصحف الوفد النصيب الأكبر في النقد والتهكم .
غير إن كثرة تجاوز الصحف التي سخرت أقلامها للنيل من البنا ودعوته دفعت بعض الإخوان للجوء للرد عليهم بنفس الأسلوب ، وقد قرر عضوان من الإخوان إصدار مجلة ساخرة كاريكاتورية ، وأعلنوا مراراً في جريدة ( الإخوان المسلمون ) اليومية عن مسابقة للبحث عن عنوان لمجلة لا حزبية ، ثم استقر صاحبا المجلة على أن تصدر باسم ( الكشكول الجديد ) وقد قررا الاستقالة من تنظيم الإخوان حتى لا تحسب كتاباتهما عليه ، على الرغم من حملهما أهداف الجماعة ، ونشرا استقالتهما في المجلة ، وطلبا من الأستاذ البنا التعقيب على ذلك ورأيه في المجلة نفسها ، فرد عليهما الأستاذ البنا فكتب يبين رأيه في هذا الفن ، وكيف يكون ، والخطة التي يقترحها عليهما ، فكتب رحمه الله قائلاً :
( تلقيت استقالتكما من الإخوان المسلمين ، وقرأت ما كتبتماه عن ذلك في مجلة ( الكشكول ) في عددها وعرضتها على الهيئة التأسيسية للإخوان في اجتماعها الماضي فوافقت عليها شاكراً لكما جهودكما الصادقة في خدمة الدعوة الكريمة سابقاً ، وحسن استعدادكما لخدمتها لاحقاً . وجميل ثنائكما عليها واعترافكما بما تقدم للشباب من خير وحسن توجيه ، فأبلغكما ذلك سائلاً الله تبارك وتعالى أن يوفقنا جميعاً لخير دينه ، والعمل على إعلاء كلمته ، وإرشاد الناس إلى سبيله ، آمين .
ولقد تابعت بعد ذلك ما يكتب في الكشكول ، فأردت أن أتقدم لكما بمخلص النصيحة ، نصيحة من لا يزال وسيظل يشعر لكما بعاطفة الأخوة الكاملة التي ربط الله بها قلوب عبادة المؤمنين فـي محكم كتابه إذ يقول: ( إنما المؤمنون إخوة ) الحجرات : الآية 10. ذلك أني وإن وافقتكما موافقة تامة في وجوب محاربة الحزبية والاستعمار ومقاومة المبادئ الهدامة الفاسدة كائنة ما كانت ، فإني لا زلت أخالفكما في الأسلوب على الصورة التي رأيتها في ( الكشكول الجديد ) .
ولهذا أرجو أن تسلكوا به مسلكاً آخر نحو بناء جديد . حاربوا الحزبية بصورتها البغيضة التي ظهرت بها في مصر ، فأحرجت الصدور ، وجرحت الأبرياء ، ونفرت القلوب ، وقززت النفوس ، وأوهنت القوى وأفسدت الأخلاق والضمائر ، وفعلت بالمجتمع الأفاعيل .
وحاربوا الاستعمار الغاشم الظالم الماكر الخادع الذي سلب حريتنا ، وقيد استقلالنا ، وتدخل في كل شؤوننا ، وحرمنا خيرات بلادنا ، وتراث كدنا وكفاحنا ، واستأثر دوننا بكل شيء ومهّد في وطننا لكل دخيل ، وكان في حياتنا الاجتماعية رأس كل خطيئة .
وحاربوا المبادئ الهدامة التي لا تتكشف في حقائقها وأهدافها ومراميها إلا عن الإلحاد والكفران والإباحية والإثم والعصيان ، والتمكين للمستعمر القديم ، أو التمهيد للمتحفز الجديد ، كأنما كُتب على هذه الأمة ألا تنقل من سيادة إلا إلى سيادة ، وألا تتذوق طعم الحرية أبداً على أيدي هؤلاء الخبثاء . ويأبى الله ذلك والمؤمنون .
حاربوا كل هذا واكشفوا عن مخازيه للناس ، وحذّروهم إياه ، ولقد كان سفيان الثوري يقول لأصحابه إذا اجتمع إليهم : تعالوا نذمّ ساعة في سبيل الله ، لا تجالسوا فلاناً فإنه كذاب، ولا تأخذوا عن فلان فإنه يضع الحديث ، ولا تتقوا بفلان فإنه متهم في دينه ، أو رأيه وهكذا .
ولكن تحرّوا في ذلك كلمة الحق الذي لا يفتري ولا يعتدي ولا يكذب ، والجد الذي يحفظ على النفوس قوتها لا تتميع معه الأخلاق ولا تموت بكثرته القلوب ، ولا يذهب برهبته العدوان ، ولا يضعف مشاعر السخط وهي عدّة المجاهدين ، ولا ينافي ذلك ورود المزحة القاسية ، والنكتة اللاذعة ، ورّب واحدة من هذه أبلغ من قول كثير ، ثم خصصوا أبواباً لهذا ، واحرصوا على أن يظهر هذا اللون واضحاً .
وتجنبوا الانحياز إلى جهة فإنكم تحاربون مذاهب وآراء وأعمالاً على يد كائن من كان . ولا تكشفوا عما ستر الله من النقائص الشخصية ، فإن الإذاعة عن ذلك في ذاتها إثم من الآثام ما لم يتعلق بذلك حق للمجتمع ، أو مصلحة تعود على الناس ، والعفة عن الولوغ في الأعراض أدب الإسلام ، ولا أجمل من التورع والاحتشام .
كونوا كذلك واطبعوا مجلتكم بهذا الطبع وانهجوا به نهجاً جديداً ، ( ونحو بناء جديد ) وأعتقد أنكم بذلك ستقدمون إلى الناس غذاءً شهياً سائغاً لا تعبَ معه ، ولا ضرر فيه إن شاء الله . وحينئذ يكون لمثلي على ضعفه وضيق وقته ألا يحرم نفسه المساهمة معكما في هذا الجهاد والله أسال لي ولكما كمال الهداية ودوام التوفيق . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ( 2 ) .
في هذا النص يتبين لنا بوضوح موقف البنا من هذا الفن ( الكاريكاتير )، وهو الموافقة والتأييد ، بل جعله جهاداً ، ولكنه وضع شروطاً هامة في كيفيته ، وأخلاقيات على من يمارسه أن يتخلق بها ، لا أرى فائدة في إعادتها ، فهي واضحة المعالم والعناصر في صلب مقال البنا .
البنا وفن النكتة :
كما كان البنا رحمه الله يستخدم لوناً من الفن اشتهر به المصريون ، وهو فن النكتة وهو يمتاز بهذا الفن تذوقاً ، وإنشاء ، ومن ذلك ما حكاه الشيخ الغزالي رحمـه الله مـن قصة زواجه ودور البنـا فيه ، يقـول الشيخ الغزالي رحمـه الله :
( مع تسلمي للعمل الحكومي ، تم زواجي ، وكان الأستاذ البنا قد تدخل في المسألة التي بدأت معقدة ، فإن والد الفتاة التي اخترتها كان يطمع في زوج أغنى مني .. إنه من قريتنا ، وإن كان موظفاً بوزارة العدل في القاهرة ، وعلم أن مرتبي ستة جنيهات ، أعطي أبي نصفها تقريباً ..!
لكن الأستاذ المرشد أقنع الرجل بأني أفضل من غيري ، والمسـتقبل بيد الله ، وسيكون خيراً .
وتزوجت وسألني الأسـتاذ المرشـد : ماذا فعلت مع فلان ـ يعني صهري ـ ؟ فقلت : دخلت بابنته . قال عاتباً : لِمَ لم تدعني ؟ وتمثل بقول الشـاعر ، وهو يبتسم :
وإذا تكون كريهة أدعى لها .... وإذا يحاس الحيس يدعى جندب
فقلت : لم تكن هناك وليمة ، اكتفينا بأشربة حلوة ، تناولها بعض الزملاء ، وأوسع لي الرجل غرفة في بيته والحمد لله ، فدعا لنا بالبركة ) ( 3 ) .
ويحكي الدكتور جابر قميحة نكتة قصها عليه الحاج عبد الرزاق هويدي ـ والد الكاتب الإسـلامي المعروف الأسـتاذ فهمي هويدي ـ خلاصتها : أنه ركب ( حنطوراً ) مـع الإمام الشـهيد ومعهما ثالث قاصدين إحدى القرى المجاورة لــ ( بنها ) لا تقصدها السيارات لضيق الطريق ، وكان الجو بارداً عاصفاً ، فطلب الإمام رفع غطاء الحنطور إلى الخلف ؛ لأن وضعه الحالي يزيد من مقاومة الحصان للهواء فيتعبه . قال الحاج عبد الرزاق : بل نتركه يا فضيلة المرشد لأن الجو بارد . ولا ضير فصاحب الحنطور من الإخوان . فصاح الإمام : سبحان الله يا أخي !!! لكن الحصان مش من الإخوان .
وكان الإمام البنا إضافة إلى أنه يمازح ويضاحك من حوله ، كان من هواة القفشات الضاحكة ، كما حدث وأن زار عمدة ( رشيد ) محمد بك طبق ، وفي جلسة تعارف ـ كما هي عادة البنا ـ بدأ العمدة فقال : ( محمد طبق ) عمدة رشيد ، ثم تلاه بجواره في التعارف قائلاً : ( محمد سمك ) رئيس مجلس بلدية رشيد ، وقدم الذي يليه نفسه بقوله : ( زكي طبيخة ) طالب !!
فقال الأسـتاذ البنا وهـو يبتسم : ( سـفرة دايمة ) وضحك الجالسون جميعاً ( 4 ) .
نتابع في الجزء الرابع إن شاء الله ..