[rainbow]
[rainbow]
بائعة الخبز
استيقظت ظهر ذلك اليوم.
ترى من يعنف نافذة غرفتي ويضربها ، فألقيت نظرة منها فرأيت صديقي في الفناء يحمل في فمه حزمة من المسامير ، ويقبض في يده مطرقة يعالج بها نافذتي ، خيل إلي أن الطرق كان يسقط على رأسي في المنام ، وتمددت إلى السماء أنفض عني كسل النوم ، ويدي تحك رأسي ، ثم توجهت إليه منتقدا ما أحدثه من ضجيج ، وربما أقلق رقاد الجيران ، فيشكونه ونقع في حرج كبير معهم ، فقلت له :
- قد اصطفيت هذه الباكورة لتصلح النافذة؟ أي أحمق يقدم على ما تصنع ؟
فضحك علي حتى كاد يبلع مسمارا من كثرة ما ضحك وليته فعل ، وقال:
- أيها الكسول !! ألا تعلم كم الساعة الآن ،لقد انتصف النهار!
لم أهتم له ، فأنا على دراية بما سيأول إليه حديثنا ، وسيضيع نهاري معه في نقاش عقيم ، ولن استمتع بما أتيت لأجله ، فكفاني جدل ومنطق مع شخص ينبري ويأنس لمثل هذه الأمور.
تركته لحاله ، ولبست أفخر الهندام ، ورشقت نفسي بأطيب العطور ، ووقفت أمام المرآة أحسن لف القرافه حول عنقي ، واحسن سدل الياقة والأكمام.
وخرجت منطلقا أزور العاصمة العجوز صنعاء.
***
استقبلتني صنعاء وكأن شيخ التاريخ سار معها ، فلما غفت في حقبة من أحقابه ، أوقع عليها عباءته ، ونسي أن يوقظها ، فسار يكمل رحلته ، وما زالت نائمة مطمئنة تحت عباءته في سبات عميق.
***
مررت بشارع قديم ، يغمره الناس ، وتكتنفه المحلات ، وقد ضاق الشارع بالباعة المتجولين ، وقد افترشوا بسطهم وفرشاتهم عليه ، يعرضون بضاعتهم للمارة ، ورأيت الرجال ينادون على بضاعتهم ، والنساء يمهرن مالديهن بأحسن المهر وأفضل المديح ، وقد ارتفعت أصواتهم حين رأوني وبدأوا يشيرون إلي ، ويدعونني إلى بضاعتهم.
أقبل علي رجلا يركض ممسكا عمامته ، ويقبض على جنبيته ، وشدني إليه ، قائلا في همس :
- لدي من الصاغة ما يعجبك!
- شكرا ، لا أرغب في الشراء.
رفع أمامي سلسلة ذهبية ، ودللها بين يديه بعناية وقال :
- إنها خير ما لدي ، فهي أفضل هدية قد تقدمها لزوجتك.
نظرت إليها مليا وقلت :
- أهي من الذهب؟
انبسطت أساريره ، وارتفع شنبه الكثيف إلى الأعلى بإبتسامة وقال :
- لا أبيع إلا الذهب!
تركني أدور في بضاعته وأتفحصها ، وأمال بظهره إلى الخلف واتكأ على عجيزته ، وضم يديه على جنبيته في وثوق.
حينها جاءه صوت يصفعه على رقبته.
- لا تخدع الرجل!
نظرنا إلى مصدر الصوت ، كانت فتاة في العشرين من عمرها تضع على وجهها لثام أظهر عينين سيالتين متقدتين بالذكاء ، وتجلس بين سلال تحمل الخبز ، وقد نهضت من فوق فرشتها ، وتقدمت إلينا.
- أرني السلسلة!
فقال الرجل في غيظ :
- وما شأنك؟!
فقالت:
- أريد أن أشتريها ، أرني السلسلة!
ناولها ما معه على مضض ، فألقت عليها نظرة ، وقالت :
- إنها مزيفة ، ولا تستحق إلا أن ترمى!
فانبرى الرجل في دفاع وهو يصيح :
- وما أدراك يا أنت؟ إنها من الذهب الخالص.
جمعت السلسلة وصفعتها في يده ، وعقبت راجعة إلى فرشتها ، وهي تقول :
- لا تختبر إمرأة في الذهب والحلي.
وحين استقرت في مكانها ، قالت لي :
- يا أستاذ إنه لمن المؤسف أن تعود إلى زوجتك بهذه الهدية المزيفة ، فأولى بك ألا تشتريها .
أدركني الرجل ، وقال :
- دعك منها فهي تحادني في رزقي!
فابتسمت ، وقلت له :
- أبائعة الخبز تحاد بائع الذهب في رزقه ، والله إنها صادقة!
فقال في كبرياء مصطنع :
- بين البائع والشاري يفتح الله.
فقلت :
- فتح الله عليك.
تركته ،ومضيت إلى بائعة الخبز ، أحببت أن أشكرها وأسدي إليها ما أسدت ، وأرد لها معروفها ، فلحظتني أتقدم إليها ، فالتفتت إلى ما بين يديها من الخبز تعيد تصفيفه وترتيبه على السلال ، وتغطيه في رعاية واهتمام.
- آنستي!
فقالت دون أن تنظر إلي :
- هل من خدمة أقدمها لك؟
رفعت راحة يدي متعففا وقلت لها :
- لا ،،، شكرا ، إنما أحببت أن أشكرك على إنقاذك لي من هذا الرجل.
عادت تحفظ الخبز في السلال ، فحككت وراء أذني من الحرج وتطلعت قريبا ، وقلت لها
- هل يوجد بالقرب هنا مطعم؟
أشارت إلى داخل الشارع ، وقالت :
- يوجد هناك مطعم على الجهة اليمنى! هل ترغب في شراء الخبز؟!
- لا ،،، شكرا.
رفعت رأسها وحملقت في وقد انعقد حاجبيها في استنكار ، وقالت :
- كيف ذلك ؟ ألست ذاهب إلى المطعم؟!
- نعم نعم
- إذن لابد أن تشتري الخبز!
- لا ،،، شكرا ، لا أريد ، أفضل الأكل في المطعم.
- كيف ذلك ؟ لابد وأن تشتري الخبز؟! كيف ستأكل؟
- أرجوكي ، بصراحة ،أنا لا أحب كل ما هو مكشوف في الشارع!
لم تلح أمام إصراري ، بل أشاحت وجهها إلى سلال الخبز التي بين يديها وقالت غاضبة
- هكذا إذن ،،، كما تريد!
***
حينما بلغت المطعم رأيته مكتظا لا يخلو من الزحام والحركة ،ويتلاطم الزبائن فيه بالأكتاف ، وكانت النار عاصفة تحت قدر عظيم مملوء باللحم والمرق لا تفتر ، وقد غطى فحيح لهيبها الأصوات المتصاعدة ، والطلبات المتتابعة ، كان كل شئ فوق النار حتى الأطباق التي تقدم للزبائن عبارة عن فخار قد أسود لونه وتوهج بحمرة قانية من شدة اللهب ، وما زال يقلب فوق عذاب النار ، وكانت القدر الضخمة تملأ زاوية كاملة ، ويعلو فوقها طباخ يتراقص وهو يدير ملعقة عملاقة في فم القدر ، وأخذ يسلط المرق في الأطباق بسرعة فائقة.
***
أنتظرت حتى جاء دوري للجلوس ، وطلبت ما يمكن أن يكون في القدر ، فأنا لم أرى شيئا آخر غير القدر ، وجاء بالطبق رجل قصير القامة ، مشوه الخلقة ، دميم الوجه ، يسعى بين الزحام ، ورمى بالطبق الملتهب أمامي ، فأطلت النظر إليه وإلى الطبق ، ونفسي منشقة تسترجع منظره في نفور ، وربما فهم مغزاي ، فصاح :
- أستأكلني ، أم ستأكل الطعام؟
رسمت إبتسامة أمامه لعلها تصرفه عني ، إلا أنه لم يأبه بها ، وأكمل دورته حول الأخرين يقذف بالأطباق أمامهم ،كان الطبق متوقد كالجمرة الحمراء ، فكشف لي سر استبدال الطاولات الخشبية بمنصات فولاذية ، فلا يمكن للخشب أن يصمد أمام هذا الطبق الجهنمي.
واحترت كيف أقرب الطبق إلي ، فلا يوجد على الطاولة إلا إبريق ماء قد صب من الحديد ، وترشح معدنه بحبات ندى باردة ، وبإلتفاتة حولي رأيت الزبائن قدعرفوا الحل أخيرا ، فهم يسكبون الماء على المنصة الفولاذية ، وحول الطبق ، فيبرد قليلا ، فيسهل لمسه ، فاتبعت طريقتهم ، ففار البخار من تحت الطبق وكأني حداد في مرجل ، فكل ما في المطعم ممتنع سهل فذكرت البلاغة كم هي سهلة ممتنعة.
أشرت للدميم بأن يأتي ، فجاء إلي ، وقد تربص وهو حذر مني ، وقد زاد وجهه دمامة بعلامة إستفهامية مستنكرة ، وخبط بيده المنصة وعلق رأسه فوق كتفه ، في إنتظار ما أطلب ، فقلت له وكأني أرجوه :
- أين الخبز؟
- ألم تشتري الخبز؟
- أشتريه؟!! ألا تقدموه؟!!
- لا يا حضرة ، نحن نقدم المرق فقط ، وأنت عليك الخبز!
وتركني ومضى ، وقد ألمح لكبير القدر بلمحة من وجهه البشع ، فضحك الآخر ضحكة هيستيرية ، وأدار القدر بملعقته في كيد ، وشاركوه كل الحاضرين بالضحك ، ومن لم يسعه الضحك ، أدار وجهه إلي وأخذ يشبرني بناظريه شزرا ، عجبت كيف لمطعم يبيع المرق ولا يبيع الخبز ، فما هي المعادلة المتفق عليها هنا؟ وما هي نظرية هذا المطعم الغبي؟ وصرت في حرج كبير ، رغم أني موقن أن ما طلبته أمر طبيعي ، ولا يتحرج منه أحد وثارت أفكاري على منطقهم السمج الغبي ، وعلى المطعم والقائمين عليه ، ودار في خاطري بائعة الخبز وكيف كان سعيها لمساعدتي ، فناديت الدميم مرة أخرى ، وفي رأسي مكر أخبئه له ، فأقبل علي مستاءا :
- لا حول ولا قوة إلا بالله ، لا يوجد ملاعق ، ولا نشتري الخبز للزبائن!!!
وتركني ومضى ، اللعنة!!! ، لقد قرأ أفكاري قبل أن أبوح بها ، وأفسد كل مخططاتي ذلك الدميم البشع، ونظرت إلى الطبق مرة أخرى ، أفكر كيف أعالجه ، حتى الطعام أصبح مستحيلا ، فهو لا يصلح بأن أرشف منه ، وأنا أرى المرق يغلي ويتدافع داخله ، وما فائدة المرق إذا برد وجمد ، فضرره حينها أكثر من نفعه.
رفعت رأسي وقد فقدت الأمل ، فرأيت الفتاة تسير أمام المطعم تحمل سلة الخبز ، دفعت الكرسي للوراء، وقفزت خارج المطعم ، وقد اعترض طريقي الدميم يصيح طلبا للحساب ، فدفعته عني ، وأنا أصيح :
- سأعود!سأعود!
أنطلفت خلفها
- يا آنسة ، لو سمحتي ، دقيقة من فضلك!
لم تعرني انتباها ، وأخذت تجد السير قدما.
- لو سمحتي!
فقالت في شدة :
- ماذا تريد؟!
- خبز!
فقالت مستنكرة :
- ماذا؟
غير معقول ، ماذا حدث للناس ، فصحت بها راجيا :
- خبز !! أريد خبزا!!
- لماذا لم تأخذه من قبل؟!
يا إلهي ، ونظرت خلفي وقد شارف المطعم على الإختفاء ، ولحقت بها مرة أخرى ، وأخرجت النقود من جيبي
- أريد خبزا وهاك النقود!!
دفعت المال من أمام وجهها ، وقد زادها تصرفي حنقا وغضبا وشدة:
- أتحسب أني أريد مالك؟ من تظن نفسك؟!!!
أكملت السير وهي ترفع رأسها غير آبهة في شموخ ، لم أعد أحتمل ، أمسكت ذراعها ، وشددتها إلي بقوة أستوقفها ، وانهارت سلة الخبز من فوق رأسها أرضا ، فألتفتت إلي غاضبة:
- أنظر ماذا فعلت؟ ماذا تريد مني؟
نظرت إلى عينيها الصاخبتين بالأنفة والكبرياء ، فهدأت عريكتي ، سحبت يدي وأفلت ذراعها ، ووقفت مطأطأ رأسي إلى الأرض ، فلم أعد احتمل النظر إلى عينيها ، ولم أعد أعرف ماذا أقول؟ أو ماذا أريد؟ كتلميذ مهذب يقف أمام أستاذه.
تمت
[/rainbow]
[/rainbow]